ألأسلاف والأخلاف ونحن الغرباء.

أسلافنا لم يتعلموا لكنهم كانوا مثقّفين، كانوا حكماء. حكماء لأنهم عرفوا الله واختبروه في تفاصيل حياتهم.

أخلافنا تعلموا ولكنهم لم يتثقفوا. العلم لا يثقّف، العلم يمنح شهادات اختصاص للعمل وبعض معرفة، أخلافنا خاصموا الحكمة لأنهم خاصموا الله. أما نحن فغرباء، نحن عالقون في ألم كبير بين سندان أسلافنا ومطرقة أخلافنا. ما رأيناه في السابقين وعشناه في طفولتنا ينبض في قلوبنا ويحيا فينا، أما ما نراه في اللاحقين يمرمرنا ويخبط على ضمائرنا.
أسلافنا لم يقتنوا الكتب لكنهم كانوا كتاباً حياً في الإيمان والفضيلة والتقاليد. أخلافنا اقتنوا كل الكتب فلم تزد على حياتهم شيئاً لا في الإيمان ولا في الفضيلة و ولا في التقاليد لا بل رأوا في هذه الأمور عبئاً ثقيلاً على حياتهم.

أسلافنا اقتنوا سلاما لأنهم تصالحوا مع ذواتهم بعد ان تصالحوا مع الله، فكان الخبز والزيتون نِعْمَة وسبب شكر لله. أما أولادنا فليس مال ولا أفخر الأطعمة ولا أغلى الملابس ولا أشهر الجامعات ولا شيء في العالم كافياً ليعطيهم أي سلام. يريدون ويريدون ويريدون وكل ذلك ليس إلا نهماً لبعض قيمة أو بعض ثقة في النفس لن يذوقوها طالما لم يذوقوا طعم الله.

إن الحب الذي زرعه أسلافنا فينا ليبنونا في الحياء والرجولة استغله أخلافنا ليخيبوا آمالنا في لون حياة اختاروها لا حياء فيها ولا رجولة ونحن في الوسط، نتألم بين الضمير والواقع، بين الصواب والخطأ وبين إلإنساني والشهواني. آباؤنا تديّنوا فأحبوا، أولادنا يتديّنون ليكرهوا. أجدادنا أكلوا فشكروا وشبعوا، أولادنا يأكلون ولا يشكرون فلا يشبعون.

آباؤنا لبسوا ليتستروا، أما أولادنا يلبسون ليتفننوا في العري. أسلافنا غنوا وركصوا للمواسم وللحب وللنصر أما أولادنا فيغنون للشهوة وللشيطان وللهزائم. ذاك كان زمان البركة وزمان حصاد النور الآتي من المشرق وهذا زمان السنين العجاف الغير المحصورة بعدد التي ريحها غربية ومسمومة.

رحم الله من عاشوا ملوكاً في بيوت حقيرة أعزاء كرماء، وليرحم الله من يعيشون عبيداً في قصور مملوؤة من كل شيء إلا الفرح والرجاء والمحبة. رحم الله أسلافنا الذين عاشوا على مستوى كرامة وغنى أبناء الله وليرحم الله أخلافنا الذين يعيشون في فقر غنى ما يلبسون ويأكلون ويملكون. أما نحن الغرباء عن الجيلين فليرحمنا الله لأننا صرنا جيل اللا انتماء ، صرنا عيباً لأسلافنا وعبئاً على أخلافنا.

أجلس على ضفة العمر وأنظر إلى الوراء فتسيل دمعة حزن وشوق إلى ما كان، يوم كان الرجل رجلاً والكلمة كلمة والحياة حياة. أنظر إلى الأمام إلى ما سيكون فتسيل دموع خيبة ولوعة وغضب. الكل يتغير، ذهب الرجال وبقي الذكور أو أشباههم، صارت الكلمة بلا كلمة وصارت الحياة بلا حياة. أي مستقبل ينتظر البشرية، أي معنى لحياة أفرغت ذاتها من الحياة وأي رجاء لأجيال تحيا بلا رجاء.

أجلس على ضفة النهر وأرى كيف يبتلع الليل النهار باسم الحضارة والتمدن والحريّة. كثُرت الجامعات وقلّت الحكمة ، كثرت الكتب وكثُر الجهل، كثر المال وكثر الفقر، انتشرت الحرية فازدادت العبودية ، تطورت البشرية فتمجّدت الكلاب والقطط.

أما آن الأوان أن تأتي يا رب وتصلح ما أفسدناه ؟


ألأب ثيوذورس داود

Comments

Popular Posts