زؤان بلادي ولا القمح الصليبي

الظلمة تطغى على النور فقط في هذا العالم لكن، مؤقتاً.

إن ما سمّيَ عصر التنوير كان نتيجة سقوط القسطنطينية وهجرة روح الشرق النابض في مثقفيه ومبدعيه إلى جسد الغرب الهابط تحت ثقل اكليروس إقطاعي فاسد باع الله والكنيسة. إن الظلمة التي حجبت نور القسطنطينية في القرن الخامس عشر دفعت النور ليشرق في مكان آخر أكثر ظلمة روحية وفكرية وثقافية.
بعد عصر النهضة وتحديداً بعد الثورة الفرنسية وشعاراتها البراقة من الخارج، انتفخ الغرب ونصّب نفسه منارة علمية وفلسفية ومشروع إنقاذ للمجتمعات. هذا كان من الخارج ، أما في الداخل فالواقع أثبت وبعد حوالي الثلاثة قرون أن الغرب أفرغ الإنسانية من صورتها وكرامتها الإلهية على حساب الفلسفة الفارغة وعلم النفس المريض والصناعة والتكنولوجيا، وبالتالي انتقلت البشرية من عبادة الله إلى عبادة الإله الآخر : المال.
هوليود ومشاهيرها، صناعة الموسيقى وناشريها من الأصنام الجدد، عالم الموضة ومعظم أسلوب الغرب في الحياة هو
منحرف ونتاج روح جديد يُراد له أخذ العالم والعالَمين إلى ملكوت آخر وبكل تأكيد ليس ملكوت الله.
نحن نعترف أن لا غنى عن كل العلوم والصناعات والتكنولوجيا ألتي أدركها الغرب وهي أساس في ضبط إيقاع الحياة البشرية، المشكلة ليست في التكنولوجيا والتطور إنما في إفراغ هذا التطور وأسلوب الحياة هذا من حضور الله ورحمته وعدله، وبعد ذلك تأليه العقل المخلوق المحدود الساقط دون الإله الخالق والرازق الحياة والضابط الكل.
مشكلة العالم ليست مع المسيحية بل مع المسيحيين الذين شوهوا المسيحية. مشكلة العالم ليست مع المسيح ولا مع كنيسته، بل مؤسسات دينية إقطاعية انتحلت إسم الكنيسة لتبني لنفسها ملكوتاً عالمياً واستثمارات وأملاك وصناعات
وأوقاف وأحزاب سياسية مهما ارتفع شأنها لن تلامس كعب حذاء المسيح.
الكنيسة اللاتينية ستقدم جواباً يوم الدينونة عن سقوط أوروبا المسيحية. " الكنائس" البروتستانتية ستقدم جواباً يوم الدينونة عن سقوط المسيحية في أميركا و"يَهَوَدتها". أما الأرثوذكس فسيقدمون جواباً عن أوروبا وأمريكا والعالم أجمع لعدم البشارة وعدم الشهادة وعن كسلٍ وميوعة وحب للمخاصمات والتكفير والتشهير والإدانة وللعيش على أمجاد الأباء وعظمة تاريخهم. لو أمضى الأرثوذكس عشرة بالمئة من وقتهم الذي يصرفونه على الفايسبوك والإنترنت
-متخاصمين ومتحِزبين ومتفلسفين ومكفِّرين بعضهم بعضاً- في سبيل البشارة لكانوا جلبوا جارهم وأصدقاءهم وكثيرين للخلاص.
أما الأرثوذكسية فتبقى منارة للخلاص ونوراً للمتعبين وحضن أم دافئ ينتظر الأبناء من الشرق والغرب ومن العالم أجمع. قد يملك العالم كل مقومات الحياة السعيدة لكنها ستبقى حياة خالية من الفرح والسلام والمحبة والأمل والرجاء ومن مقومات الخلاص.
أخشى ما أخشاه - كما ابتلع الغرب تقاليدنا وأصالتنا - أن تتسرب ظلمة لاهوته إلى لاهوتنا المشرقي من خلال طلّاب للعصرنة والفَرْنجة والحداثة، يأكلون من موائد العالم ويتقيأون طعامهم لعنة على مسامع أبناء أنطاكيا التي قدرها أن تبقى عظمى حتى ولو سجد كثيرون فيها من خلال لاهوتهم وتعاليمهم وفكرهم وسلوكهم للبعل الجديد.


ألأب ثيوذورس داود

Comments

Popular Posts