ليتني لم أكبُر

ليتني لم أكبُر
April-25-2015
ليتني لم أكبر ولم أهجر طفولتي.
ليتني لم أكبر ولم أخسر بساطتي وبراءتي وأحلامي وأصدقائي وفرحي.
ليتني لم أكبر ولم أكتشف أن وطن النجوم ليس هنا مع أني حدّقت كثيراً فلم أجده ولم يتذكر من أنا. كم صعب أن تكبر ظاناً أن وطنك مملؤٌ نجوماً فلا تجد فيه إلا الظلام، كم مخيّب أن تكبر ظاناً أنك ابن الملك لتجد نفسك إبن شارع وكم مؤلم أن تكبُر ولا يكبر معك شيء من ماضيك.
صديق طفولتي الملاك يوم كَبُر صار آكل لحوم بشرٍ، صار كارهاً لكل شيء حتى لنفسه. كنا نصطاد معاً ونتقاسم الخبز والملح والعصافير المشويّة فلما كُبرنا صرت أنا فريسته فتقاسم لحمي- بلا ملح- مع أصدقاء جدد جاؤوا من جهنم وسكنوا بيننا.
ليتني لم أكبر ولم أخسر صديقي.
من كان يرقص معي إلى جانبي صار يرقص على جثتي، من آكلني أكلني ومن أمسك بيدي قطعها ومن نظر في عيني ثملها، ومن حلم معي في الحرية استعبدني يوم كبر. ليتني لم أكبر
أمضيت ٣٣ عاماً لأجد أجوبة، كيف يتحول الملاك إلى شيطان، وكيف يصير النور ظلاماً وكيف للمحبة أن تتحول كراهية ؟ لم أجد جواباً، فقط أدركت أن البذور الصالحة تحتاج إلى تربة صالحة وإلى زارع صالح يُسمح له أن يهتم بزرعه. سألت الرب حكمة وفهماً وجواباً وما زلت أنتظر ويبدو لأني كبرت -ولست بعد طفلا ً -لم أعد أفهم ، ليتني لم أكبر.
يُحكى أن حاكماً إيطالياً دعا فناناً تشكيلياً شهيراً وأمره برسم لوحتين فريدتين مختلفتين ومتناقضتين عند مدخل أكبر كنيسة في البلاد، أمره أن يرسم صورة ملاك ويرسم مقابلها صورة الشيطان لرصد الإختلاف بين الخير والشر وبين الفضيلة والرذيلة. فبدأ الرسام بالبحث عن مصدر يستوحي منه الصورتين إلى أن عثر على طفلٍ بريءٍ وجميل تخيّم السكينة على وجهه الأبيض المستنير وتغرق عيناه في بحر من السعادة، فذهب معه إلى أهله واستأذنهم في استلهام صورة الملاك من خلال جلوس الطفل أمامه كل يوم حتى ينهي ذلك الرسم مقابل مبلغ من المال وبعد شهرٍ أصبح الرسم جاهزاً ومبهراً للناس فكان نسخة من وجه الطفل مع قليل من إبداع الفنان ولم تُرسم لوحة أروع منها في ذلك الزمان.
بدأ الفنان بعدها بالبحث عن شخص يستوحي منه وجه الشيطان ولأنه كان جاداً جداً بحث لأشهر وسنوات فَطَال بحثه أكثر من عشرين عاماً. وكلما سأله الحاكم كان يجيب: لم أجده بعد وقد زرت السجون والعيادات النفسية والحانات وأماكن تواجد المجرمين ولكني لم أجد ضالتي.
وفي ليلة من الليالي وفيما كان الرسام يمر في إحدى الممرات الضيقة وجد " الشيطانَ " الذي كان يبحث عنه، شاهده يطعن رجلاً بسكين بيدٍ وفي اليد الأخرى يمسك بزجاجة من الكحول. الرجل كان قبيح المنظر، كريه الرائحة، حليق الشعر ما خلا بعض شعيرات طوال في الوسط كأنها قرن الشيطان، هذا الرجل كان بارداً كالجثة لا يأبه لشيء، ميتاً حياً، يتكلم بصوت عالٍ وعندما يفتح فاه ليتكلم يظهر بعض أسنان فقط مع كثير من الرذاذ المتطاير من فمه.
إقترب الرسام منه كمن وجد كنزاً وأخبره عن غايته وعرض عليه مالاً كثيرا ليقبل أن يذهب معه ليرسمه، فقبل الرجل عندما سمع بالمال الكثير الذي سيتقاضاه،وعندما علم الحاكم فرح فرحاً عظيماً.
في اليوم الثالث من الرسم نظر الرسام إلى وجه الرجل الشيطان فرآه يبكي بمرارة فتوقف عن الرسم وسأله: هل أنت بخير؟ هل تحتاج وقتاً للراحة؟ هل تريد أن تدخّن سيجارة أو أن تشرب بعض الكحول ؟
فأجابه الرجل بصوت مخنوق جاهشاً في البكاء: أنت يا سيدي زرتني منذ عشرين عاماً يوم كنت ما زلت طفلاً ورسمتني على الجانب الآخر من باب الكنيسة مستلهما ً صورة الملاك، وها أنت اليوم وبعد كل هذه السنوات التي أمضيتها بعيداً عن الله في الشر والرذيلة والقتل والحقد قد أتيت بي لتستلهم من وجهي صورة الشيطان. وما أن أكمل كلامه ارتمى على كتف الرسام باكياً منتحباً فجلسا معاً يبكيان أمام صورة الطفل الملاك.
إن الله خلقنا جميعاً ملائكة بل وأفضل، لكن نحن من نجعل من ذواتنا أحياناً كثيرة شياطين بل أسوأ من الشياطين.
يا صديق طفولتي الذي خسرته منذ سنين طوال ولا أعلم في أي بقعة تخدم الشيطان قاتلاً، مغتصباً، سابياً، خاطفاً ، ظالماً وحاقداً ، كارهاً نفسك والآخر والله، لا زلت أرى فيك صورة الملاك، لا زلت أرى فيك صورة الله ولا زلت أحبك. إلهي يا صديقي إله محبة وخير وصلاح ونمّى فيَّ بذاره فمهما فعلتٓ ومهما قتلت وأثمتَ فأنا ما لا زلت أحبك وكتفي ما زال ينتظرك.
أرجو أن تصلك هذه الرسالة فتقرأها.
إقرأ...
إقرأ يا صديقي علّك ترجع ملاكاً أو أقله إنسانا ً.
ألأب ثيوذورس داود

Comments

Popular Posts